في الجزء الثاني : دكتور الباقر العفيف يروي تجربته مع السرطان: قصة اختفاء قسري

في الجزء الثاني : دكتور الباقر العفيف يروي تجربته مع السرطان: قصة اختفاء قسري

محاورة الكيماوي
وبَدأَتْ رحلتي مع العلاج الكيمائي، ويا لها من رحلة. في مستشفى جونز هوبكنز أعطونا كمية من الكتيبات والمجلات والأوراق المختلفة تتحدث عن مرض السرطان وعن العلاج الكيماوي وآثاره الجانبية. والذي يقرأ الآثار الجانبية للكيموثيرابي وهو مقبل عليه، سيصاب بالفزع لا محالة. فالقائمة تبدأ من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين مرورا بالجهاز الهضمي وجميع الحواس: تساقط الشعر، والصداع، وانعدام الشهية للطعام، ثم الغثيان، والاستفراغ، والإسهال، وتقلصات البطن، stomach cramps، تَقَرُّح اللثة، تَغَيُّر المذاق، وتبلل الأنف، تَغَيُّر لون الجلد، وتَنَمُّل الأطراف، والفتور العام وموات الحيل  fatigue.

وبطبيعة الحال قد تجتمع كل هذه الأعراض عند البعض، وهذا قليل، أما أغلب الناس فتحدث لهم بعض هذه الآثار بدرجات متفاوتة. من قراءاتي لاحظت أن أغلب المصابين يهتمون بتساقط الشعر مع أنه أخف هذه الآثار الجانبية كونه لا يلازمه أي نوع من الآلآم الجسدية. بالطبع هناك آلام نفسية تصيب البعض، خاصة الشباب والأطفال من الجنسين. الشاهد أن تساقط الشعر هو العَرَضُ الأكثر شهرة والعلامة الأكثر ارتباطا بمرض السرطان، فكأنه هو عنوانه ودلالته الدالة عليه. لذلك فالحديث عنه كثير في تجارب المصابين. ولعل أطرف ما قرأت حول هذا الأمر هو ما سطره قلم الدكتور جمال سند السويدي، الذي سجل تجربته مع السرطان في كتاب ضخم ضَمَّنه سيرته الذاتية، بعنوان: “لا تستسلم: خلاصة تجاربي”، بعث به إليَّ مشكورا أخي العزيز محمد صادق جعفر. حكى المؤلف أنه بادر بحلاقة شعر جسمه كاملا، قبل بدء جلسات الكيماوي رافعا شعار :”بيدي لا بيد عمرو”.

وعموما أنا أرى أن العلاج الكيماوي من أكثر أنواع العلاج تخلفا. فهو مبني على نظرية شمشون الجبار : “عليَّ وعلى أعدائي”، وهو سلاح غير ذكي، شبيه بأسلحة الدمار الشامل. يقضي على الأخضر واليابس وعلى الصالح والطالح. لا يفرق بين خلية سليمة وأخرى سقيمة. والحجة وراء استخدامه أن الخلايا السرطانية لا تستطيع تجديد نفسها بينما في إمكان الخلايا السليمة أن تنهض من الرماد، مثل طائر العنقاء، وتعود لممارسة وظائفها من جديد.

إن الموت الجماعي للخلايا السرطانية وغير السرطانية، الذي يُسَبِّبه الكيماوي، ثم نهوض الخلايا غير السرطانية من جديد يجلبُ للذاكرة مشهدا من مشاهد القيامة تصفه هذه الآية القرآنية: (ونُفِخ في الصُّور فصُعِق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) (الزمر ٦٨).

ظللت أتصور أن هذا المشهد سوف يحدث داخل جسمي ثمان مرات هي عدد الجلسات المقررة لي. يدخل الكيماوي في دورتي الدموية بما يماثل النفخة الأولى، فتُصْعَق الخلايا جميعها، إلا من شاء الله، ثم يبدأ خروجه من الجسم، بما يماثل النفخة الأخرى، فإذا بالخلايا السليمة “قيام ينظرون”. كان لابد لي من أن أفلسف to philosophize  ما أنا مقدم عليه كنوع من الاستعداد النفسي لملاقاته.

جاءت لحظة الحقيقة. كان موعدنا الساعة الثامنة إلا ربعا صباحا. بعد رحلة استغرقت حوالي عشرين دقيقة من البيت أوقف أخي أمير العربة أمام مدخل مركز السرطان بمدينة مِلفورد Milford. وأول ما لفت نظري هو ضخامة اللافتة. لافتة من ثلاث كلمات فقط The Cancer Center ولكن حروفها عملاقة مصنوعة من حديد ومركبة على الجدران. لافتة تهيمن على المبنى كله كأن الغرض منها أن تصيب الداخل بالصدمة والرعب  shock and awe.

دخلت على المبنى بمشاعر مشوشة يختلط فيها الإقدام بالتردد، والتحدي بالخوف، والتفاؤل بالتشاؤم، بيد أن ما يقود خطوي للأمام هو ما يحدوني من أمل ورجاء في الله. فنحن في أحلك الظروف نتشبث بالأمل حتى ولو كان غامضا وبعيدا. وأهلنا يقولون: “الغرقان يتلافى زبد البحر”، مما يعني أن شيئا عديم الفائدة مثل زبد البحر يمكن أن يمثل بارقة أمل في لحظة ما لغريق ما. فالأمل هو رَوْحُ الله الوارد في الآية: (يا بَنّيَّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من رَوْحِ الله إنه لا ييأس من رَوْحِ الله إلا القوم الكافرون). وكذلك يقول: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). كل هذا يدعم بعث الأمل في النفوس حتى لو كنا لا نرى ضوءً في نهاية النفق. وكما يقولون “لولا الأمل لسقطنا على الأرض ومتنا”. وفي معنى قريب من هذا يقول الخواجاتEvery cloud has a silver lining أو “لكل سحابة بطانة فضية”. ويعني أن في كل حدث محزن هناك ما يبعث الأمل حتى ولو لم يكن مبعث الأمل واضحا من الوهلة الأولى. وهو قريب من المعنى الذي رمى إليه المجذوب، حين قال في قصيدته الشهيرة ليلة المولد:

أيكون الخير في الشر انطوى؟
والقُوَى خرجت من ذرة هي حبلى بالعدم
أتراها تقتل الحرب وتنجو بالسَلَمْ؟
ويكون الضعف كالقوة حقا وذماما
سوف ترعاه الأمم
وتعود الأرض حبا وابتساما؟

في الاستقبال راجعوا معلوماتي الشخصية للتأكد من أنني هو الشخص المعني: الاسم وتاريخ الميلاد وعنوان السكن. ثم طلبوا مني التوقيع على وثيقتين، الأولى موافقتي على العلاج الكيماوي، والثانية التزامي الشخصي بدفع التكاليف المالية، كوني لا أملك تأمينا صحيا. بعد ذلك ربطوا لي بطاقة في معصمي وطلبوا مني الجلوس لحين استدعائي. بعد لحظات جاءت ممرضة وندهت اسمي بطريقتها الخاصة، (آاال بَكييير)، فنهضت لملاقاتها. حيَّتني وتساءلت إذا ما كان نطقها لاسمي صحيحا. قلت لها ضاحكا: “اجتهاد لا بأس به”. بدأت بأخذ الوزن. وكنت فقدتُ حوالي اثني عشرة كيلوجرامات ما بين أبريل ويوليو. ثم دلفنا إلى داخل قاعة كبيرة بها كراسي من النوع الذي يتحول إلى سرير للنوم. وهناك حوالي سبعة أو ثمانية مرضي يتلقون العلاج الكيماوي. يجلسون مطرقين وقرب كل واحد منهم حامل عليه أكياس الكيماوي، تصورتُها مثل البُوم يخيم فوق رؤوسهم.

هززتُ رأسي لهم محيِّيا، ثم أخترتُ الكرسي الذي يواجه نافذة زجاجية كبيرة تطل على الشارع، وبالقرب من النافذة أشجار ضخمة تلعب فيها السناجب squirrels. جاءت ممرضة وأخذت عينات من دمي وأرسلتها للمعمل، وشرحتْ لي لماذا يأخذون عينات الدم قبل بداية جلسة الكيموثيرابي، وأنها ستستلم النتائج بعد ساعة. كان يصحبني أمير كما ذكرت، وظللنا نتحدث في شتى الموضوعات إلى أن رجعت الممرضة تدفع أمامها حامل أو عجلة كبيرة عليها كمبيوتر . أوضحت لي أن قراءة الهيموجلوبين عبارة عن 10,5 (عشرة فاصل خمسة) وهو عموما أقل من المتوسط ولكنه كاف لتلقي هذه الجرعة. ثم بدأت في حقني مجموعة من الأدوية المضادة للغثيان والإسهال، وكذلك حقنة ستيرويد steroids لتعطيني طاقة تعينني على الإرهاق الذي يسببه الكيماوي.

وفي تمام العاشرة صباحا بدأتُ تناول أولى الجرعات وهي مكونة من ثلاثة أكياس (دِرِبَّات)، يسمونها مجتمعة  Folfirinox Regime، الأول اسمه Oxaliplatin يستغرق ساعتين، والثاني اسمه Irinotican ينتهي بعد ساعة ونصف. أما الأخير فهو الأصغر والأخطر اسمه 5Fu ، وهو موبايل يوصلونه لي ويضعونه في شنطة صغيره، في حجم شنطة اليد التي تستخدمها السيدات، ويدرعونه لي في كتفي وأذهب به للبيت ويبقى معي ليومين كاملين، أنوم به وأقوم به. بعد انقضاء اليومين أعود للمستشفى لكي يفصلونه مني  to disconnect it.وسأعود للحديث عن هذا الأخير في موقع آخر من هذا المقال، عند حديثي عن الآثار الجانبية التي حدثت لي.

المهم قضينا الساعات الأولى من الجرعة الأولى نتبادل الحديث أمير وأنا في شتى الموضوعات السياسية والثقافية. وأحيانا نقرأ رسائل الواتساب لفترة ريثما نعود للحديث من جديد. ثم جاءتنا مكالمة تلفونية من الأهل في السودان، تحدثتُ مع أخَوَاتي وطمأنتهن بأني بدأت الجرعات وأن الأمور تسير بصورة جيدة. ثم قلن لي “تحدث مع الوالدة”. خاطبتُها بصوت ملؤه الفرح مستخدما عبارتي الأثيرة عندما أناديها: “وييين يا حاجة آمنة اتصبري. كيفك؟”. فجاءني صوتها الواهن: “أهلا يا باقر .. مشتاقة ليك شدييييد. إنت ليه بقيت ما بتجيني زي زمان”.

حاولت أن أتماسك وأجيبها ولكن خنقتني الْعَبْرَة، فصمتُّ قليلا حتى تزول وأواصل الحديث معها، ولكن أمي استبطأت إجابتي وظلت تردد: “مشتاقة ليك يا باقر .. مشتاقة ليك .. مالك بقيت ما بتجيني؟”. في تلك اللحظة انتابتني موجة من البكاء لا أذكر قط أن بكيت مثلها في الثلاثين سنة الماضية، وكان ظني بنفسي أنني امرؤ “عصيُّ الدمع”، وأن من “شِيمتي الصبرُ”. ولكن في تلك اللحظة هَجَمَتْ عليَّ صور كثيرة، آخرها هجمة رجال الأمن على بيوت شقيقيَّ خلف الله وحيدر وعلى بيتي وبيت الوالدة، واستيلاءهم على أموال الأسرة برمتها، وإصرارهم على تفتيش غرفة الوالدة في الثانية صباحا، رغم إخطارهم أنها مريضة ومُقْعَدة.

لك الله يا أمي. أنت لا تدرين أن الحياة أدبرت عن السودان، وحَلَّ محلَّها الآلام والأحزان، مع “فتنٌ كقطع الليل المظلم” منذ أن ملك زمامه أبالسة العصر الذين “يأكلون بيوت الأرامل ولِعِلَّةٍ يُطيلُون الصلاة”، ويصنعون زبيبة على الجباه. وأننا صرنا إلى حال من التردي ما بكينا من يوم إلا وبكينا عليه في اليوم التالي. لدرجة يبدو معها “العسكري الفرَّاق”، الذي حال بين شاعر الشعب وقلب امه “الساساق”، أكثر رحمة من هؤلاء. ويكفي القول بأن “العسكري الفرَّاق” لم يكن يتقرب إلى الله بدق المسامير على رؤوس المعتقلين.

أردتُ أن أخبر أمي كم أنا مشتاق إليها، وكم أفتقدها. وأردتُ أن أطمئنها بإنني سوف أعود إليها قريبا بإذن الواحد الأحد، وسوف أقص لها أظافرها كما كنتُ أفعل حين كان بمقدوري زيارتها. أمي ما كانت تدع أحدا يقص لها أظافرها غيري وصِهْرَيَّ د. ربيع، وأمير. تقول نحن نفعل ذلك بصورة “هينة ولينة ما بتحرقها”. وإني أبتهل إلى الله أن يحفظ حياتي وحياتها وأن يَمُنَّ علينا بلقاء، وما ذلك عليه بعزيز. أعدت التلفون لأمير بينما أمي ما زالت على الخط يجيئني صوتها من بعيد. لا أدري حتى هذه اللحظة ماذا قال لها أمير، ولكني بعد أن غسلتُ صدري شعرتُ ببعض الراحة.

في الثانية والنصف بعد الظهر خلَّصْتُ الكيسين الأوَّلَيْن. ومرَّا بسلام إلا من بعض الغثيان. ثم ربطوا لي الكيس الصغير الخطير. هذا يستغرق ثمان وأربعين ساعة حتى يُفْرِغَ سمومَه في جسمي، يُطْلِقُ خمسة مليجرامات فقط في كل ساعة، ولكن عندما يطلقها يَهْتَزُّ جسمي كلُّه، وتُسْتَنْفَرُ جميع حواسي، وأحسُّ كأن أبخرة تخرج من أنفي وأُذُنَيَّ وعَيْنَيّ، كما أشعر بإفرازات مقيتة داخل فمي. وهذا كله كوم وتقلصات المعدة كوم آخر. وهذه الأخيرة تنشط في الأمسيات وتمنعني النوم.

أذكر في مكالمة مع أخي د. مالك بشير مالك، وهو دائم الاتصال والزيارة، طلب مني أن أصف له هذه التقلصات، فقلت له: “بتتذكر أُمَّاتنا وهن يغسلن الهدوم في الطشت؟ بس بحس كأنه في زول خاتي مصاريني في طشت وبِدْعَكْ فيهن”. فصرخ قائلا: “لا إله إلا الله. لا خلاص كفى. الله يعينك”. وبالرغم من ذلك اعتبرتني طبيبة الأورام محظوظا لأن هذه الآثار، حسب رأيها، جاءتني في حدها الأدنى.

نواصل

 

*******دكتور الباقر العفيف هو المدير التنفيذي لمركز الخاتم عدلان للاستنارة

 

في الجزء الثاني : دكتور الباقر العفيف يروي تجربته مع السرطان: قصة اختفاء قسري

في الجزء الاول: دكتور الباقر العفيف يروي تجربته مع السرطان: قصة اختفاء قسري

إلى إخوتي وأخواتي،
أسرتي الممتدة في فرعيها الشارباب والقريشاب،
أصدقائي وصديقاتي الممتدين في جميع القارات والمنتمين إلى كافة الانتماءات،
زملائي وزميلاتي في العمل العام عموما، وفي المجتمع المدني على وجه الخصوص،
جميع معارفي من الجنسين،
وإلى كل من يحمل في قلبه خاطرة طيبة عني.

أحييكم فردا فردا وأعزّكم جميعا.

غبتُ عن الفضاء العام منذ يونيو المنصرم.
تواريتُ عن الأنظار، وخَفَتَ صوتي.
لكنه لم يكن غيابا اختياريا، وإنما كان اختفاء قسريا.
لم يُغَيِّبَني عنكم جهاز الأمن، وإن غَيَّبَني عن تراب وطن أحبه، وشعب طيب الأعراق يسكن سويداء قلبي.

الذي غَيَّبَني عنكم “الشديد القوي”، كما يٌعَبِّر أهلنا.

هو المرض، ذلك السهم الطائش، الذي يخبط خبط عشواء، لا يميز الطيب من الخبيث، ولا النافع من الضار، ولا الظالم من المظلوم، ولا الغني من الفقير، ولا الكبير من الصغير، ولا رجل من امرأة.

وأي الأمراض؟
إنه السرطان وقَّاكم الله منه وأبعده عنكم وعن وجه البسيطة كلها. ذلك الاسم المرعب، الذي يعتبر من أوسع الأبواب المُفْضِية إلى الدار الآخرة، والذي يتحاشى ذكره أهلنا الطيبين.

فبعد رحلة طويلة من محاولات البحث عن أجوبة لبعض الأعراض التي كنت أشعر بها، بدأتها في كمبالا وواصلتها في لندن وأكملتها في أمريكا. وبعد سلسلة من الفحوصات المكثفة خاصة في شهري يونيو ويوليو هذا العام تأكد لي أنه سرطان الاثني عشر Duodenal Cancer.

بدأت أشعر بألآم خفيفة في البطن، منذ أغسطس ٢٠١٧، من نوع تلكم الألآم التي تٌغري بالتجاهل. وهي آلامٌ، فوق كونها خفيفة، عابرة غير مقيمة، تأتيك من غور عميق مثل نداء بعيد. وبالرغم عن طبيعتها تلك، إلا أنني لم أتجاهلها، بل شرعتُ على الفور في زيارة الأطباء، بحثا عن أجوبة.

فطبيعة الألم جديدة عليَّ كل الجدة. لا تشبه أي من أعراض أمراض البطن التي عانيت منها في الماضي، أو تلك التي ظللت أعاني منها حتى تلكم اللحظة. كانت الأعراض عبارة عن طعنة خفيفة عابرة ولكنها مثابرة، بمعنى أنها تأتي كل يوم. وفيما بعد أصبحت مصحوبة بآلام خفيفة في أعلى الظهر.

عندما لم أجد إجابة في كمبالا، سافرتُ لمقابلة الأطباء في لندن في أكتوبر ٢٠١٧. ولكن قبل أن أكتشف مرضي، اكتشفت الانهيار الذي أصاب الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا The National Health Services (NHS).

ذلك النظام العظيم الذي أنشأه حزب العمل البريطاني Labour Party في العام ١٩٤٨، على أسس المدرسة الفاابية في الاشتراكية Fabian School of Democratic Socialism ، والذي يضمن توفير الخدمات الصحية مجانا للجميع. وهي جزء من دولة الرفاه الاجتماعي الطموح التي أسسها الحزب ابتداء من ذلك العام، والتي توفر بالإضافة على الخدمات الصحية المجانية، التعليم العام المجاني، والسكن المدعوم، والحد الأدنى من الدخل الذي يحفظ الكرامة البشرية للعاطلين عن العمل وأصحاب الاحتياجات الخاصة وطالبي اللجوء.

هذا النظام، أي نظام دولة الرفاه الاجتماعي، يرفضه حزب المحافظين الذي ظل على الدوام ينظر إليه كالشوكة في خاصرته، وشرع في تفكيكه عن طريق القوانين كلما فاز في الانتخابات وسيطر على الحكومة منفردا. وقد تسارعت خطاهم في تفكيكه منذ عهد تاتشر في نهاية السبعينات، تلك المرأة الحديدية التي كانت تكره بنات جنسها، والتي خلت تشكيلة وزاتها الأولى ١٩٧٩ من جنس امرأة، فكان مجلس وزرائها رجاليا بحتا. وقد اشتهرت إلى جانب ذلك بتصريحها الذي أثار عليها الرأي العام حيث قالت: “لا يوجد شيء اسمه المجتمع. وإنما هناك أفراد من رجال ونساء وهناك أُسَرً”.

“And, you know, there’s no such thing as society. There are individual men and women and there are families”.

هؤلاء المحافظين، وخصوصا الدُّغمائيين المتشدِّدين بينهم، مثل السيدة تاتشر، أكثر الأحزاب شبها بالأخوان المسلمين، فالقاسم المشترك بينهم هو انعدام الفكر الاجتماعي، وضعف الإحساس بالفئات الضعيفة في المجتمع.

وقد أثمرت جهودهم الهدامة ثمرتها المرة المتمثلة في تقليص الميزانيات للمستشفيات والمراكز الصحية فأصبح الناس ينتظرون في الصفوف الأشهر الطوال قبل أن يحظوا بمقابلة الطبيب المتخصص. وربما ساءت أحوال بعض المرضى، وربما مات بعضهم، بينما هم ينتظرون دورهم. كما تقلص الوقت الذي يُتِحْهُ لك الطبيب العمومي the general practitioner (GP) أثناء المقابلة. وأصبح من العسير أن يحولك للطبيب الأخصائي، ذلك لأن عينه دائما على الميزانية وكيف يستطيع أن “يُحَوِّقْها” لنهاية العام، مما ينعكس سلباً على الاهتمام بالمرضى.

وأنا شخصيا أعتبرُ أن الفشل في اكتشاف الورم مبكرا إنما كان نتيجة مباشرة لهذا التجريف المستمر لهذا الصرح العظيم. ويكفي القول بأنه قد مرّت تسعة أشهر بين مقابلتي الأولى للطبيب في شهر أكتوبر ٢٠١٧ وبين اكتشاف الورم في منتصف يوليو ٢٠١٨ الماضي، أي إبان العهد الذهبي للخدمات الصحية الوطنية NHS ،كان يمكن أن تكتمل الفحوصات في أسبوع واحد أو أسبوعين.

في فبراير من هذا العام خضعتُ لعملية منظار وصور الموجات الصوتية. اظهر المنظار أنني مصاب بالتهاب بكتيري في المعدة اسمه H-Pylori ولسوء الحظ أن أعراضه شديدة الشبه بأعراض سرطان البنكرياس والاثني عشر. وهي عبارة عن آلام في البطن تجئ في شكل طعنات stabbing وآلام في أعلى الظهر محولة referred من داخل المعدة. وهذا يعني أن آلام الظهر ليست آلام بالأصالة، أي أن مصدرها ليس هو الظهر ذاته، وإنما هي آلام بالحوالة، أي أرسلت إليه من منطقة ملتهبة داخل المعدة يضعف أو ينعدم فيها العصب الحسي. أما صورة الالترا ساوند فلم تظهر شيئا.

استخدمتُ المضادات الحيوية لأسبوعين وقضت على الالتهاب البكتيري كما أثبتت الفحوصات اللاحقة، بيد أن الألآم لم تنته. عاودتُ الطبيب الأخصائي بلندن في أبريل فأمر بصورة الموجات فوق الصوتية (ألترا ساوند) مرة ثانية. أعتقد أنه استبعد السرطان في المرة الأولى عندما رأى بكتيريا جرثومة المعدة ولم ير شيئا مريبا في صورة الالترا ساوند. وهنا يكمن الفرق بين المدرسة الأمريكية في التشخيص والمدرسة البريطانية.

هنا في أمريكا يضعون جميع الاحتمالات تحت الفحص حتى لو كانت بنسب صغيرة، ثم يبدأون في فحصها وإزالتها من القائمة إلى أن يعثروا على المرض. أما في بريطانيا فتجربتي تشير إلى غير ذلك. لأنهم عندما عثروا على بكتريا المعدة استبعدوا أي احتمال آخر، وكان هذا خطأ كبير.

انتظرتُ دوري حوالي شهرين لأخذ الصورة، أي في منتصف يونيو. هذه الصورة أظهَرَتْ ورما كبيرا يجلس على رأس البنكرياس. وبالرغم عن ذلك طلب الطبيب الاخصائي رؤيتي في الرابع من يوليو لكيما يحولني لطبيب الأورام. وهذا يعني أن أنتظر حوالي العشرين يوما لمقابلة الأخصائي الذي سيحولني لطبيب الأورام لأقابله على أقل تقدير بعد أسبوعين آخرين. والأطباء يعلمون ماذا يعني انتظار شهر وزيادة، إذا صح أنه ورم خبيث في البنكرياس. فمعلوم أن هذا أحد أسوأ أنواع السرطان، ومن اكثرها شراسة في مهاجمة وغزو الاعضاء الأخرى خاصة الكبد والأوعية الدموية. وهو ذات السرطان الذي أدى لرحيل أخي وصديقي الخاتم عدلان.

كانت عندي رحلة عمل للولايات المتحدة مبرمجة مسبقا، بعد أسبوع واحد فقط من ذلك التاريخ، أي في الثاني والعشرين من يونيو. ومع وصولي مطار واشنطن دي سي اشار علي أخي وصهري أمير، زوج شقيقتي عفاف، أن نذهب من المطار مباشرة لقسم الطواري في مستشفى بي هيلث Bay Health بمدينة ميلفورد Milford بولاية ديلاوير Delaware حيث تقيم الأسرة.

هناك أُجْرِيَتْ لي صور الأشعة المقطعية أو الـ CT Scan وفحص الدم. أظهرت الصورة ورما في رأس البنكرياس، أي تطابقت مع نتائج صورة الأشعة فوق المقطعية التي أجريتها في لندن. بعدها أٌخِذَتْ عينة من الورم للفحص المعملي (biopsy) لمعرفة ما إذا كان الورم حميدا أم خبيثا. وكانت النتيجة أنه ورم خبيث.

بعد ذلك قابلت طبيبة الأورام التي زَفَّتْ لي أسوأ خبر سمعته في حياتي. قالت لي: “إنه سرطان البنكرياس، وهو في المرحلة الثالثة أو الرابعة، مما يعني أن أيامك في الدنيا صارت قليلة، بين ستة أشهر في حدها الأدنى وعام واحد في حدها الأعلى”.

قلت لها: “هل أنت متأكدة مما تقولين؟” فأجابت بالإيجاب.

قلت لها: “سألتمس وجهة نظر أخرى”، فقالت لي: “نعم من الضروري أن تلتمس وجهة نظر أخرى”

مرَّ عَلَيَّ اسبوع كامل قبل موعدي مع مستشفى جونز هوبكنز Johns Hopkins الشهير، الذي سعيتُ له لالتماس وجهة النظر الأخرى. خلال هذا الأسبوع الطويل، مررت، بما يسمونه life-changing experience، أي تجربة عميقة من نوع التجارب التي تغير حياة البشر. سأعود بالتفصيل لهذه التجربة الغنية التي أحب أن أشرككم فيها بكل شفافية، عسى أن ينتفع بها من ينتفع مِن بَيْن من يَتَيَسَّرُ له الاطلاع عليها.

المهم ذهبت في الموعد المضروب مع المستشفى حيث أجريتُ صورة بالأشعة المقطعية وتحليل الدم ثم قابلنا فريقا طبيا مكونا من ثلاثة أطباء: إخصائي الأورام oncologist ، والجرَّاح surgeon ، واخصائي الأشعة Radiology oncologist.

واول شيء قالوه لي: “نحن لا نعتقد أن ورمك في البنكرياس، It’s not Pancreatic Tumor بل هو في الاثني عشر Duodenal Cancer، بيد أن الورم شق طريقه بين الأعضاء المجاورة ليجلس على رأس البنكرياس. وقد جاء الخلط نسبة لتجاور الاثني عشر والبنكرياس.

ثم أردفوا: “وهذا خبر جيد بالنسبة لك، لأنه أقل خطرا من سرطان البنكرياس.

قلت لهم: “هل هذ الرأي بالإجماع، أم أن لبعضكم رأي آخر”.

أجابوا أنهم مجمعين على هذا الرأي.

سألتهم بأي نسبة هم متأكدون من هذا الرأي، أجابوا أنهم متأكدون بنسبة ٩٠٪.

سألتهم: “كيف أصبتم حيث أخطأ زملاؤكم في مستشفى بي هيلث؟”

أجابوا بالقول: “لأن المكنات التي نستخدمها للأشعة المقطعية هي الأحدث في أمريكا state of the art لذلك فصورها أوضح. كذلك أخذنا في الاعتبار الأعراض التي تنطبق على المصابين بسرطان البنكرياس في الدرجة الثالثة والرابعة وهي لا تنطبق عليك”.

سألتهم عن المرحلة التي عليها سرطان الاثني عشر الذي شخصوه للتو، فأجابوا أنها المرحلة الثالثة.

أروني الصور وشرحوا لي شرحا مفصلا سأعود إليه فيما بعد،

وقال لي الجراح: “سنوصي لك بثمان جرعات من الكيموثيرابي (الأقوى بين ثلاثة أنواع)، كل ما نريده هو أن نوقف نمو الورم”.

ثم أردف مداعباً: “إذن مسؤوليتك أنت هي إيقاف نمو الورم، أما أنا فسأتكفل بالباقي”

قلت له – بيني وبين نفسي -:

“والله من ورائه، أي الورم، محيط”.

**********دكتور الباقر العفيف هو المدير التنفيذي لمركز الخاتم عدلان للاستنارة